11 أيار/مايو 2009
عدلوا الأنظمة: نظرية توازن السوق مغلوطة
بقلم جورج سوروس
"بينما يتحتم تعزيز النظم والقوانين الدولية لضمان بقاء النظام المالي العالمي حيا، يجب علينا أيضا أن نحرص على عدم التمادي أكثر مما يجب في ذلك. صحيح إن الأسواق لا تتميز بالكمال، ولكن النظم أبعد منها عن ذلك."
جورج سوروس هو رئيس مجلس إدارة شركة "سوروس فند مانجمنت"، ومؤسس معهد المجتمع المفتوح، ومؤلف تسعة كتب، بما فيها أحدثها "الصيغة النموذجية الجديدة للأسواق المالية: ماذا تعني أزمة العام 2008."
نشرت هذه المقالة أصلا في جريدة الديلي ستار اللبنانية الصادرة باللغة الإنجليزية وأعيد طبعها بإذن من مشروع بروجيكت سندكيت.
نحن الآن في خضم أسوأ أزمة مالية منذ الثلاثينات من القرن الماضي. وأبرز مواصفات هذه الأزمة هي أنها لم تطرأ نتيجة هزة ما خارجية كخلل ناجم عن رفع منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) أسعار النفط. فقد ولّدها النظام المالي نفسه. هذه الحقيقة – وهي خلل متأصل في النظام المالي – تتناقض مع النظرية المتعارف عليها عموما، وهي أن الأسواق المالية ميالة إلى التوازن، وأي انحراف عن هذا التوازن يطرأ إما بشكل عشوائي أو بسبب حدث خارجي مفاجئ يصعب على الأسواق التكيّف معه. وقد ظل الأسلوب الحالي لتنظيم الأسواق مرتكزا إلى هذه النظرية. لكن شدة الأزمة ومدى اتساعها برهنا بشكل مقنع على أن هناك خطأ أساسيا في هذه النظرية.
وأنا توصّلت إلى وضع نظرية بديلة تنادي بأن الأسواق المالية لا تعكس بدقة الظروف والأحوال الكامنة فيها. فهي تعرض صورة تكون دوما منحازة أو مشوهة بطريقة ما أو بأخرى. والأهم هو أن الآراء المشوهة التي يتبناها المشاركون في السوق وتعبّر عنها أسعار السوق يمكن لها، تحت ظروف وأحوال معينة، أن تؤثر في ما يسمى الأساسيات التي يفترض أن تعكسها وتعبر عنها أسعار السوق.
أنا أسمّي هذه الرابطة الدائرية ذات الاتجاهين بين أسعار السوق والحقيقة الواقعية الكامنة تحتها "الانعكاسية" (أو الارتدادية). فأنا أقول إن الأسواق المالية انعكاسية دائما، ويمكن أن تنحرف أحيانا مبتعدة كثيرا عن ما يسمّى التوازن. وبمعنى آخر، الأسواق المالية معرضة لإيجاد الفقاعات والأوهام.
جذور الأزمة
نشأت الأزمة الحالية في سوق الرهونات العقارية التي قدمت لمشتري العقارات بأسعار كانت دون سعر الفائدة (التي يقررها البنك المركزي). وجاء انفجار فقاعة المساكن الأميركية بمثابة الفتيل الذي فجر فقاعة هائلة أكبر بكثير كانت قد بدأت تتكون منذ الثمانينات عندما أصبح التمسك بأصول أساسيات السوق هو المذهب السائد. وأدت تلك العقيدة إلى رفع القيود وإلغاء النظم والعولمة والابتكارات المالية القائمة على افتراضات زائفة مفادها أن السوق ميالة بطبيعتها إلى التوازن.
والآن، انهار بيت الكرتون. فبإفلاس شركة "ليمان براذرز" في أيلول/سبتمبر 2008 حدث ما لا يصدق. وأصيب النظام المالي بنوبة قلبية، وسرعان ما وضع على الأجهزة الاصطناعية لإبقائه على قيد الحياة: فقد اتخذت سلطات العالم المتقدم (الكامل النمو) تدابير تكفل عدم وقوع مؤسسات هامة أخرى في شرك الفشل والإفلاس. أما البلدان القابعة عند الحواشي وعلى هوامش النظام المالي العالمي فلم يكن بمقدورها اتخاذ ضمانات مماثلة ذات كفالة موثوقة. وكان أن عجّل ذلك بهروب رؤوس الأموال من بلدان أوروبا الشرقية وآسيا وأميركا اللاتينية، وانخفض سعر صرف العملات كلها مقابل الدولار والين. وهوت أسعار السلع في سقوطها سقوط حجر هاو بينما حلّقت معدلات الفائدة في صعودها في الأسواق الناشئة.
لا يزال السباق لإنقاذ النظام المالي الدولي جاريا. غير أنه حتى لو نجح السباق وفاز، فإن المستهلكين والمستثمرين وأصحاب الأعمال التجارية يمرون بتجربة صدمة مؤلمة ما زالت آثارها الكاملة وعواقبها غير معروفة. فالركود الشديد حتمي لا مفر منه ولا يمكن استبعاد احتمال حدوث كساد.
قوّة موازنة للأسواق؟
إذن، ما الذي يجب عمله؟
بما أن الأسواق المالية معرضة لخلق فقاعات الأصول، يجب على المشرفين على التنظيم أن يتحملوا مسؤولية الحيلولة دون نمو تلك الفقاعات أكبر من اللازم، لكن السلطات المالية رفضت صراحة حتى الآن تحمّل المسؤولية.
مستحيل طبعا منع الفقاعات من التشكّل، لكنه يجب أن يكون بالإمكان ضمان حدود وحجم يمكن تحملها. وهذا لا يمكن تحقيقه بمجرد السيطرة على العرض النقدي والإمداد. إذ على المشرفين على التنظيم أن يأخذوا في اعتبارهم أيضا الظروف والأحوال الائتمانية، لأن المال (النقد) والائتمان لا يسيران معا بصورة متسقة. فالأسواق لها أمزجة وميول وانحرافات يجب أن تكون هناك قوّة أو ثقل يعادلها. فللسيطرة على الائتمان (الإقراض) كمجال مختلف ومتميز عن المال لا بد من استخدام – أو بشكل أدق، إعادة تنشيط - أدوات إضافية، بما أنها استخدمت في الخمسينات والستينات. وأنا أشير هنا إلى ما يسمى بمتطلبات الهامش (وهي الكمية النقدية التي يجب على المستثمر أن يوفرها في حساب آخر تصل قيمتها إلى نصف قيمة ما يريد شراءه من استثمارات دينا) ومتطلبات الحد الأدنى لرأس المال بالنسبة إلى المصارف.
الابتكارات والهندسة المتطورة التي تستخدم اليوم في الصيغ المالية يمكن أن تجعل تقدير متطلبات الهامش ورأس المال بالغة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة. ولذا فإن المنتجات (الخدمات) المالية الجديدة يجب أن تسجَّل وتنال الموافقة من السلطات المعنية قبل تسويقها.
والقوة الموازنة لمزاج السوق تتطلب القرار الحكيم. وبما أن المشرفين على التنظيم بشر، فهم معرضون للخطأ. ولكنهم يتمتعون بميزة الحصول على المعلومات الواردة من السوق التي ينبغي لها أن تنبههم وتمكنهم من تصحيح أخطائهم. وإذا كانت متطلبات تقييد الهامش والحد الأدنى لرأس المال لا تكفي لإفراغ الفقاعة وزوالها، فبإمكان المنظمين عندئذ أن يفرضوا مزيدا من القيود. لكن هذا الأسلوب ليس مضمون النتيجة كليا لأن الأسواق أيضا يمكن أن تكون على خطأ. ولذا فإن الجد في البحث عن أفضل قوة موازنة عملية لا نهاية لها من التجربة والخطأ.
لعبة القطة والفأرة هذه عملية جارية فعلا بين منظمي السوق والمتعاملين فيها، لكنه لم يتم الإقرار بعد بالطبيعة الفعلية لها. إلا أن الرئيس السابق لمجلس الاحتياطي الفدرالي الأميركي ألان غرينسبان كان سيّد البراعة في التحوير والتلاعب في تصريحاته المبهمة للتهرب بدلا من الإقرار بما كان يفعل، فقد ادعى أنه كان مجرد متفرج غير مؤثر. ولهذا السبب نمت فقاعة الأصول وكبرت إلى هذا الحد في عهده.
صندوق النقد الدولي: مهمة جديدة
بما أن أسواق المال عالمية، يجب أن تكون التنظيمات والقواعد عالمية المدى أيضا. ومع الوضع الحالي تنشأ لصندوق النقد الدولي مهمة جديدة في الحياة، وهي: حماية البلدان المحيطة من آثار العواصف التي تنشأ في المركز، أي الولايات المتحدة بالذات. فالمستهلك الأميركي لم يعد قادرا علي القيام بدور الآلة المحركة للاقتصاد العالمي. ولذا يجب على البلدان الأخرى أيضا، لتفادي كساد عالمي، أن تحفز اقتصادياتها المحلية. لكن بلدان المحيط ليست في وضع يمكنها من انتهاج سياسات ذات قوى توازن دورية دون أن يكون لها فائض كبير من الصادرات. فالأمر إذن عائد لصندوق النقد الدولي كي يجد وسائل تمويل القوى المالية التوازنية الدورية لحقوق السحب الخاص، وتستطيع البلدان الغنية بالتالي تمويل عجزها المالي الخاص والتنازل عن حقها للدول الفقيرة التي لا تستطيع التمويل.
وفي حين يتحتم تعزيز التنظيم الدولي كي يستطيع النظام المالي العالمي البقاء على قيد الحياة، يترتب علينا أن نكون واعين وحذرين بالنسبة لعدم التمادي. فالأسواق لا تتميز بالكمال، ولكن حتى النظم أيضا ليست كاملة. والنظم ليست من صنع البشر فقط، بل وهي بيروقراطية أيضا عرضة للنفوذ والمؤثرات السياسية. ولذا يجب إبقاء استخدام التنظيمات في الحد الأدنى منه اللازم للمحافظة على الاستقرار.
2008 جميع الحقوق محفوظة لجريدة الديلي ستار.
الآراء الواردة ويعبر عنها هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء وسياسات الحكومة الأميركية.